فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دل الكلام عليه كما كان في قولك: غفر الله لزيد ورحمه.
(فإن قلت): لم فعل ذلك؟ (قلت): لنكتة وهي أنّ كثيرًا كأنه يقول لعزة: امتحني لطف محلك عندي، وقوة محبتي لك، وعامليني بالإساءة والإحْسان، وانظري هل تتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة.
وفي معناه قول القائل:
أحول الذي إن قمت بالسيف عامدًا ** لتضربه لم يستغشك في الودّ

وكذلك المعنى أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم، واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم.
وانظر هل ترى خلافًا بين حالي الاستغفار وتركه؟ انتهى.
وقيل: هو أمر مبالغة في الإياس ومعناه: إنك لو طلبت الاستغفار لهم طلب المأمور، أو تركته ترك المنهى عنه، لم يغفر لهم.
وقيل: معناه الإستواء أي: استغفارك لهم وترك الاستغفار سواء.
(فإن قلت): كيف جاز أن يستغفر لهم وقد أخبر أنهم كفروا؟ فالجواب قالوا من وجوه: أحدها: أن ذلك كان على سبيل التأليف ليخلص إيمان كثير منهم.
وقد روي أنه لما استغفر لابن سلول وكساه ثوبه، وصلى عليه، أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب الرسول، وكان رأس المنافقين وسيدهم.
وقيل: فعل ذلك تطييبًا لقلب ولده ومن أسلم منهم، وهذا قريب مما قبله.
وقيل: كان المؤمنون يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لقومهم المنافقين في حياتهم رجاء أن يخلصوا في إيمانهم، وبعد مماتهم رجاء الغفران، فنهاه الله عن ذلك وأيأسهم منه، وقد سأل عبد الله بن عبد الله الرسول أن يستغفر لأبيه رجاء أن يخفف عنه.
وقيل: إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يحقق خروجهم عن الإسلام، ورد هذا القول بأنه تعالى أخبر بأنهم كفروا فلا يصح أن يقال إنه غير عالم بكفرهم.
وقال أبو عبد الله الرازي: الأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس: أنّ الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم اشتغل بالاستغفار فنهاه عنه لوجوه: الأول: أن المنافق كافر، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز، فلهذا السبب أمره الله تعالى بالاقتداء بإبراهيم عليهما السلام إلا في قوله: {لأستغفرن لك} وإذا كان هذا مشهورًا في الشرع، فكيف يجوز الإقدام عليه؟ الثاني: أنّ استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصرًا على القبيح والمعصية.
الثالث: أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب.
الرابع: أنه إذا كان لا يجيبه بقي دعاء الرسول مردودًا عند الله، وذلك يوجب نقصان منصبه صلى الله عليه وسلم.
الخامس: أن هذا الدعاء لو كان مقبولًا من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة، فثبت أنّ المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع، بل هو كما يقول القائل: إنْ سأله حاجة لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك لا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها، فكذا ههنا.
والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية: {ذلك بأنهم كفروا}.
فبيّن أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول لهم، وإن بلغ سبعين مرة، هي كفرهم وفسقهم.
وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين، فصار هذا القليل شاهدًا بأن المراد إزالة الطمع أن ينفعهم استغفار الرسول مع إصرارهم على كفرهم، ويؤكد: {والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
والمعنى: أنّ فسقهم مانع من الهداية، فثبت أنّ الحق ما ذكرناه.
وقال الأزهري في جماعة من أهل اللغة: السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة، لا السبعة التي فوق الستة انتهى.
والعرب تستكثر في الآحاد بالسبعة، وفي العشرات بالسبعين، وفي المئين بسبعمائة.
قال الزمخشري: والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير.
قال عليّ رضي الله تعالى عنه:
لأصبحن العاص وابن العاصي ** سبعين ألفًا عاقدي النواصي

قال ابن عطية: وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيرًا ما يجيء غاية ومقنعًا في الكثرة.
ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى، وإلى أصحاب العقبة؟ وقد قال بعض اللغويين: إنّ التصريف الذي يكون من السين والباء والعين شديد الأمر من ذلك السبعة، فإنها عدد مقنع هي في السموات وفي الأرض، وفي خلق الإنسان، وفي بدنه، وفي أعضائه التي بها يطيع الله، وبها يعصيه، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس، وهي: عيناه، وأذناه، وأسنانه، وبطنه، وفرجه، ويداه، ورجلاه.
وفي سهام الميسر، وفي الأقاليم، وغير ذلك ومن ذلك السبع العبوس، والعنبس، ونحو هذا من القول انتهى واستدل القائلون بدليل الخطاب وأنّ التخصيص بالعدد يدل على أنّ الحكم فيما وراء ذلك بخلافه بما روى أنه قال: «والله لأزيدن على السبعين» ولم ينصرف حتى نزل: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} فكف عنه.
قيل: ولقائل أن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى، لأنه تعالى لمّا بين أنه لا يغفر لهم البتة ثبت أنّ الحال فيما وراء العدد مساوٍ للحال في العدد، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما رآه بخلافه.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار كيف؟ وقد تلاه بقوله تعالى: {ذلك بأنهم كفروا} الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: «رخص لي ربي فأزيد على السبعين»؟ (قلت): لم يخف عليه صلى الله عليه وسلم ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهارًا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كما قال إبراهيم عليه السلام: {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض انتهى.
وفي هذا السؤال والجواب.
غض من منصب النبوة، وسوء أدب على الأنبياء، ونسبته إليهم ما لا يليق بهم.
وإذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: «لم يكن لنبي خائنة الأعين» أو كما قال: وهي الإشارة، فكيف يكون له النطق بشيء على سبيل التحييل؟ حاشا منصب الأنبياء عن ذلك، ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليق بحالهم، ولقد تكلم عند تفسير قوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} بكلام في حق الرسول نزهت كتابي هذا أنْ أنقله فيه، والله تعالى يعصمنا من الزلل في القول والعمل، ذلك إشارة إلى انتفاء الغفران وتبيين العلة الموجبة لذلك، وانتفاء هداية الله الفاسقين هو للذين حتم لهم بذلك، فهو عام مخصوص. اهـ.

.قال أبو السعود:

{استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إخبارٌ باستواء الأمرَين الاستغفارُ لهم وتركُه في استحالة المغفرة، وتصويرُه بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائِهما كأنه عليه الصلاة والسلام أُمر بامتحان الحالِ بأن يستغفر تارة ويتركَ أخرى ليظهرَ له جليةُ الأمر كما في قوله عز وجل: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} بيانٌ لاستحالة المغفرة بعد المبالغةِ في الاستغفار إثرَ بيانِ الاستواءِ بينه وبين عدمِه.
روي أن عبدَ اللَّه بنَ عبدِ اللَّه بنِ أُبيّ وكان من المخلِصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفرَ له ففعل عليه الصلاة والسلام فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام محافظةً على ما هو الأصلُ من أن مراتبَ الأعداد حدودٌ معينةٌ يخالف حكمُ كلَ منها حكمَ ما فوقها: «إن الله قد رخّص لي فسأزيد على السبعين» فنزلت {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} وقد شاع استعمالُ السبعةِ والسبعين والسبعِمائةِ في مطلق التكثيرِ لاشتمال السبعة على جملة أقسام العددِ فكأنها العددُ بأسره وقيل: هي أكملُ الأعدادِ لجمعها معانيَها ولأن الستة أولُ عددٍ تامَ لتعادل أجزائِها الصحيحةِ إذ نصفُها ثلاثة وثلثُها اثنان وسدسُها واحد وجملتها ستةٌ وهي مع الواحد سبعةٌ فكانت كاملةً إذ لا مرتبةَ بعد التمام إلا الكمالُ ثم السبعون غايةُ الكمالِ إذ الآحادُ غايتُها العشرات والسبعُمائة غايةُ الغايات.
{ذلك} إشارةٌ إلى امتناع المغفرةِ لهم ولو بعد المبالغةِ في الاستغفار، أي ذلك الامتناعُ ليس لعدم الاعتدادِ باستغفارك بل {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} كفرًا متجاوزًا عن الحد كما يلوح به وصفُهم بالفسق في قوله تعالى عز وجل: {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} فإن الفسقَ في كل شيء عبارةٌ عن التمرُّد والتجاوز عن حدوده أي لا يهديهم هدايةً مُوصلةً إلى المقصد ألبتةَ لمخالفة ذلك للحكمة التي عليها يدور فلكُ التكوينِ والتشريعِ، وأما الهدايةُ بمعنى الدِلالة على ما يوصِل إليه فهي متحققةٌ لا محالة ولكنهم بسوء اختيارِهم لم يقبلوها فوقعوا فيما وقعوا، وهو تذييلٌ مؤكدٌ لما قبله من الحُكم فإن مغفرةَ الكافرِ إنما هي بالإقلاع عن الكفر والإقبالِ إلى الحق، والمنهمكُ فيه المطبوعُ عليه بمعزل من ذلك، وفيه تنبيهٌ على عذر النبيِّ صلى الله عليه وسلم في استغفاره لهم وهو عدمُ يأسِه من إيمانهم حيث لم يعلم أنهم مطبوعون على الغي والضلالِ إذ الممنوعُ هو الاستغفارُ لهم بعد تبيُّن حالِهم كما سيتلى من قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} الآية. اهـ.

.قال الألوسي:

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوَلاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الظاهر أن المراد به وبمثله التخيير، ويؤيد إرادته هنا فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ستعلم إن شاء الله تعالى ذلك منه فكأنه قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام: إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت فلا، وكلام النسفي تنسفه صحة الأخبار نسفًا.
واختار غير واحد أن المراد التسوية بين الأمرين كما في قوله تعالى: {أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: 53] والبيت المار:
أسيئي بنا أو أحسني

إلخ، والمقصود الأخبار بعدم الفائدة في ذلك وفيه من المبالغة ما فيه، وقال بعض المحققين بعد اختياره للتسوية في مثل ذلك: إنها لا تنافي التخيير فإن ثبت فهو بطريق الاقتضاء لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما فلابد من أحدهما ويختلف الحال فتارة يكون الإثبات كما في قوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وأخرى النفي كما هنا وفي قوله سبحانه: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6] {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} بيان لعدم المغفرة وإن استغفر لهم حسبما أريد إثر التخيير أو بيان لاستحالة المغفرة بعد المبالغة في الاستغفار اثر بيان الاستواء بين الاستغفار وعدمه.
وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله سبحانه: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة: 79] إلخ سأله عليه الصلاة والسلام اللامزون الاستغفار لهم فهم أن يفعل فنزلت فلم يفعل.
وقيل: نزلت بعد أن فعل، واختار الإمام عدمه وقال: إنه لا يجوز الاستغفار للكافر فكيف يصدر عنه صلى الله عليه وسلم.
ورد بأنه يجوز لأحيائهم بمعنى طلب سبب الغفران، والقول بأن الاستغفار للمصر لا ينفع لا ينفع لأنه لا قطع بعدم نفعه إلا أن يوحي إليه عليه الصلاة والسلام بأنه لا يؤمن كأبي لهب، والقول بأن الاستغفار للمنافق إغراء له على النفاق لا نفاق له أصلًا وإلا لامتنع الاستغفار لعصاة المؤمنين ولا قائل به، وقال بعضهم: إنه على تقدير وقوع الاستغفار منه عليه الصلاة والسلام والقول بتقديم النهي المفاد بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] لا اشكال فيه إذ النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم الفائدة وهو كلام واه لأن قصارى ما تدل عليه الآية المنع من الاستغفار للكفار وهو لا يقتضي المنع عن الاستغفار لمن ظاهر حاله الإسلام، والقول بأنه حيث لم يستجب يكون نقصًا في منصب النبوة ممنوع لأنه عليه الصلاة والسلام قد لا يجاب دعاؤه لحكمة كما لم يجب دعاء بعض إخوانه الأنبياء عليهم السلام ولا يعد ذلك نقصًا كما لا يخفى، ومناسبة الآية لما قبلها على هذه الرواية في غاية الوضوح إلا أنه قيل: إن الصحيح المعول عليه في ذلك أن عبد الله وكان اسمه الحباب وكان من املخلصين ابن عبد الله بن أبي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: لأزيدن على السبعين فنزلت {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} [المنافقون: 6] الخ، وفيه رد على الإمام أيضًا في اختياره عدم الاستغفار وكذا في إنكاره كون مفهوم العدد حجة كما نقله عنه الاسنوي في التمهيد مخالفًا في ذلك الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قائل بحجيته كما نقله الغزالي عنه في المنخول وشيخه إمام الحرمين في البرهان وصرح بأن ذلك قول الجمهور.